1.1 المياه الجوفية، الأرض والانسان
موضوع هذا الكتاب هو المياه الجوفية والبيئات الجيولوجية التي تحكم وجودها والقوانين الفيزيائية التي تصف جريانها، وما يصاحبها من تطور كيميائي. يتطرق الكتاب أيضاً الى التأثير المتبادل بين الانسان والمنظومة الطبيعية للمياه الجوفية. إن مصطلح "المياه الجوفية" مستخدم عادة للمياه تحت سطح الأرض التي تتواجد تحت المستوى المائي في التربة والطبقات الجيولوجية المشبعة بالكامل. إذ نحن نحتفظ بهذا التعريف الكلاسيكي، إلا أننا ندرك بأن دراسة المياه الجوفية لا بد وأن تستند الى فهم أوسع لمنظومة المياه تحت سطح الأرض. إن مقاربتنا ستكون متوافقة مع الاهتمام التقليدي بكل من المياه الضخلة والمياه المشبعة والمياه الجوفية، ولكنها أيضاً تتضمن المياه القريبة من سطح الأرض غير المشبعة من مياه التربة التي تلعب دوراً هاماً في دورة المياه. إن هذه المقاربة ستتضمن كذلك المنطقة الأعمق والمشبعة (بالمياه) التي لها تأثير مهم في العديد من العمليات الجيولوجية. إن دراسة المياه الجوفية هي بطبيعتها متعددة الجوانب، وهناك مسعى واعي في هذا الكتاب لدمج الكيمياء والفيزياء والجيولوجيا، فدراسة المياه الجوفية تعتبر وثيقة الصلة بالجيولوجيين وعلماء المياه وعلماء التربة والمهندسين الزراعيين وساكني الغابات والجغرافيين وعلماء البيئة والمهندسين الجوتقنيين ومهندسي المناجم والصرف الصحي ومحللي الخزانات النفطية وآخرين.
لو كُتب هذا الكتاب قبل عشر سنوات لكان قارب المياه الجوفية كمورد انطلاقاً من حاجات زمانه والكتب المنشورة فيه والتي ركّزت على امدادات المياه من خلال الآبار واحتساب عائدات الخزانات الجوفية. إن مشاكل المياه الجوفية كانت تُرى حينها من منظور تهديد الامدادات، وهي مقاربة ما تزال مهمة، ولذلك سيعطيها هذا الكتاب الاهتمام اللازم، ولكن المياه الجوفية هي أكثر من مورد، فهي خاصية مهمة من البيئة الطبيعية، وتؤدّي الى مشاكل طبيعية، كما يمكن في بعض الحالات أن تُقدّم حيّزاً لحلول بيئية. إن المياه الجوفية هي جزء من دورة المياه، وفهم وظيفتها في هذه الدورة يُعتبر أمراً إلزامياً حال الدفع باتجاه اعتماد تحاليل مدمجة تأخذ بالاعتبار موارد مستجمعات المياه، أو عند إجراء تحاليل واسعة النطاق للتلوث البيئي. في الاطار الهندسي، إن المياه الجوفية تساهم في بعض المشاكل الجيوتقنية، مثل عدم استقرار المنحدرات وهبوط الأرض. كذلك فإن المياه الجوفية هي مفتاح لفهم العديد من العمليات الجيولوجية والتي من ضمنها الهزات الأرضية، وانتقال ثم تجمّع النفط وتكوّن بعض أنواع الرواسب الخام والتربة والتضاريس.
تضع الفصول الخمسة الأولى من هذا الكتاب الأسس الفيزيائية والكيميائية والجيولوجية لدراسة المياه الجوفية. الفصول الستة الأخرى تُطبّق هذه المبادىء في مجالات التفاعل المتعددة بين المياه الجوفية والأرض والانسان. إن الفقرات التالية تُعّتبر مقدمات لكل من الفصول اللاحقة.
المياه الجوفية والدورة الهيدرولوجية
اهتمامنا يتركز على الجزء المرتبط باليابسة من هذه الدورة كونه يمكن أن يكون مفعّلاً على مستجمع مياه واحد. الشكلان 1.1 و 1.2 يُقدّمان رسمين تخطيطتيّن لدورة المياه على مستجمع مياه، وقد تم إدراجهما هنا لأجل إعطاء القارىء مقدمة بيانية للمصطلحات الهيدرولوجية. الشكل 1.1 هو الأفضل من الناحية النظرية كونه يُركّز على العمليات ويُبيّن مفهوم نظام الجريان في الدورة الهيدرولوجية. إن طريقة العرض في الشكل 1.2 (مخطط صندوقي وسهمي) تُستخدم عادة في المقاربة النظامية (system approach) للمحاكاة الهيدرولوجية. لا تعكس هذه الطريقة الوضعية الديناميكية، ولكنها قادرة على التمييز بوضوح بين المصطلحات التي تُعنى بمعدلات الحركة (المربعات السداسية) وأولئك المعنية بالتخزين (المربعات المستطيلة).
التدفق الوارد الى النظام الهيدرولوجي يصل كـ "هطل"، التي يأخذ شكل المطر أو ذوبان الثلوج. التدفق الصادر يتجلى بـ "الجريان الجدولي" (streamflow) (أو ما يُعرف بـ السيح (runoff)) ومجمل التبخر والنتح (evapotranspiration)، الذي يشمل التبخر من المسطحات المائية المفتوحة والتبخر المباشر من التربة والتبخر من التربة من خلال النباتات (النتح). يصل الهطل الى الجداول عن طريقين، على سطح الأرض على شكل "مياه سطحية جارية" (overland flow)، وجريان تحت سطحي على شكل "جريان بيني" (interflow) و"جريان قاعدي" (baseflow) وذلك بعد تسرب المياه الى التربة من خلال "الارتشاح". إن الشكل 1.1يُوضح بأن النظرة الى مستجمع المياه تدمج مساحة الحوض السطحية والتربة والطبقات الجيولوجية الكامنة تحت السطح. إن العمليات الهيدرولوجية تحت السطحية هي بنفس الأهمية كالعمليات السطحية. في الواقع، يُمكن القول بأن الأولى هي أكثر أهمية لاعتبار أن المواد تحت السطحية هي التي تتحكم بمعدلات الارتشاح والتي بدورها تؤثر على توقيت وانتشار جريان المياه السطحية. في الفصل السادس، سنتطرق الى أنماط جريان المياه الجوفية، وسنستطلع العلاقات بين توليد الارتشاح، تغذية المياه الجوفية وتصريفها، الجريان تحت سطحي، وتدفق المجاري المائية. في الفصل السابع، سنقارب التطور الكيميائي للمياه الجوفية الذي يرافق مرورها في الجزء تحت السطحي من الدورة الهيدرولوجية.
قبل إنهاء هذا الجزء، من المفيد أخذ نظرة حول المعلومات التي تعكس الأهمية الكمّية للمياه الجوفية نسبة الى المكونات الأخرى من الدورة الهيدرولوجية. في السنوات الأخيرة، أعطي مفهوم "الميزان العالمي للمياه" اهتماماً كبيراً (Nace 1971; Lvovitch 1970; Sutcliffe 1970)، والتقديرات الأخيرة تُركّز على الانتشار الواسع للمياه الجوفية في الغلاف المائي (Hydrosphere). بمراجعة الجدول 1.1، إذا تم إهمال الـ 94% من مياه الأرض التي تستقر بملوحة عالية في المحيطات والبحار، فإن المياه الجوفية تُشكّل حوالي ثلثي المياه العذبة في العالم. إذا حصرنا الاهتمام بالموارد القابلة للاستعمال من المياه العذبة (بعيداً عن الكتل والأنهار الجليدية)، فإن المياه الجوفية تُشكّل تقريباً كل الكمية. حتى لو أخذنا أنظمة المياه الجوفية الأكثر فعالية، والتي يُقدرها Lvovitch (1970) بـ 106 × 4 كلم مكعب (غير الـ 106 × 60 كلم مكعب الواردة في جدول 1.1)، فإن المياه العذبة تنقسم الى: 95% مياه جوفية، 3.5% بحيرات ومستنقعات وخزانات ومجاري أنهار، و1.5% رطوبة التربة.
العامل | المساحة السطحية (km2×106) | الحجم (km3×106) | الحجم (%) | العمق الموازي *(m) | مدة الاقامة |
المحيطات والبحار | 361 | 1370 | 94 | 2500 | ~ 4000 عام |
البحيرات والخزانات | 1.55 | 0.13 | <0.01 | 0.25 | ~ 10 أعوام |
المستنقعات | <0.1 | <0.01 | <0.01 | 0.007 | 1-10 أعوام |
سواقي الأنهار | <0.1 | <0.01 | <0.01 | 0.003 | ~ أسبوعان |
رطوبة التربة | 130 | 0.07 | <0.01 | 0.13 | أسبوعان-عام |
المياه الجوفية | 130 | 60 | 4 | 120 | أسبوعان-10 آلاف عام |
الغطاء والانهار الجليدية | 17.8 | 30 | 2 | 60 | 10- 10 آلاف عام |
مياه الغلاف الجوي | 504 | 0.01 | <0.01 | 0.025 | ~ 10 أيام |
مياه الغلاف الحيوي | <0.1 | <0.01 | <0.01 | 0.001 | ~ أسبوع |
ولكن الحجم الكبير يُلطّفه معدل مدة الاقامة تحت الأرض، فدورة مياه الأنهار تتطلب أسبوعين، فيما المياه الجوفية تسير ببطىء ومدة إقامتها تصل الى عشرات، مئات وحتى آلاف السنين أحياناً. إن المبادىء المعروضة في الفصل الثاني واعتبارات الجريان الاقليمي الواردة في الفصل السادس، من شأنها إيضاح الضوابط الهيدرولوجية على المسير واسع النطاق للمياه الجوفية.
إن معظم الكتب الهيدرولوجية تتضمن نقاشات تفصيلية للدروة الهيدرولوجية ولميزان المياه العالمي. إن كتب Wisler & Brater (1959) و Linsley, Kohler & Paulhus (1975) هي من الكتب واسعة الاستخدام في مقدمات الهيدرولوجيا، وكتاب Eagleson (1970) قام بتحديث هذا العلم بمستوى أعلى، كما أن الكتاب الكبير Handbook of Applied Hydrology الذي حرره Chow (1964a) هو من المراجع القيمة.
إن تاريخ تطور الفكر الهيدرولوجي هو من الدراسات المثيرة للاهتمام. يُقدّم Chow (1964b) بحثاً مختصراً، فيما يعرض الكتاب الكبير لـ Biswas (1970) الكثير من التفاصيل، بدءً من مساهمات المصريين الأوائل وفلاسفة الاغريق والرومان حتى ولادة الهيدرولوجيا العلمية في غرب أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
المياه الجوفيةكمورد
إن الحافز الأساسي لدراسة المياه الجوفية كان تاريخياً وما يزال أهميتها كأحد الموارد. بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، إن أهمية دور المياه الجوفية كعنصر من المياه الوطنية يمكن ملاحظته من الدراسات الاحصائية لوكالة المسح الجيولوجية الأميركية (U.S. Geological Survey) للعام 1970 التي كتبها Murray & Reeves (1972) ولخّصها Murray (1973).
يوثّق الجدول 1.2 تزايد استخدام المياه في الولايات المتحدة الأميركية خلال الفترة بين العامين 1950 و 1970. في العام 1970 استخدم المجتمع الأميركي 1400 × 106 m3/day، %57 من هذه الكميةكانت للاستخدام الصناعي و35% للري. إن 81% من مجموع هذه الكمية مصدره المياه السطحية فيما 19% يعود للمياه الجوفية. يوضح الشكل 1.3 بشكل بياني دور المياه الجوفية مقارنة م المياه السطحية في مجالات الاستخدام الأربعة للفترة ما بين 1950 و 1970. تعتبر المياه الجوفية أقل أهمية للاستخدام الصناعي فيما تشكل نسبة بارزة للاستخدام المنزي (في المدن والأرياف) وللري.
إن المعطيات في الجدول 1.2 والشكل 1.3 تُخفي بعض التفاوت الاقليمي المدهش. حوالي 80% من مجموع استخدام الري هو في 17 ولاية غربية فيما 84% من الاستخدام الصناعي هو في 32 ولاية شرقية. إن المياه الجوفية هي أكثر استخداماً في الغرب حيث تُشكّل 46% من الامداد الشعبي و44% من الاستخدام الصناعي مقارنة مع 29% و16%، على التوالي، في الشرق.
m3/day × 106* | نسبة الاستخدام عام 1970 (%) |
||||||
1950 | 1955 | 1960 | 1965 | 1970 | |||
مجموع سحب المياه | 758 | 910 | 1023 | 1175 | 1400 | 100 | |
الاستخدام | |||||||
الامدادات العامة | 53 | 64 | 80 | 91 | 102 | 7 | |
امدادات الأرياف | 14 | 14 | 14 | 15 | 17 | 1 | |
الري | 420 | 420 | 420 | 455 | 495 | 35 | |
الصناعة | 292 | 420 | 560 | 667 | 822 | 57 | |
المصدر | |||||||
المياه الجوفية | 130 | 182 | 190 | 227 | 262 | 19 | |
المياه السطحية | 644 | 750 | 838 | 960 | 1150 | 81 |
تم تقدير المياه الجوفية الريفية والبلدية في كندا بـ 1.71 × 106 m3/day، أو 20% من مجموع استهلاك هذا النوع من المياه (Meyboom 1968). إن هذا المستوى من استخدام المياه الجوفية هناك هو أقل بكثير من نظيره في الولايات المتحدة حتى إذا ما أخذنا بالاعتبار نسبة السكان بين الدولتين. النظرة الأكثر تفصيلية الى الأرقام تُظهر أن تطور المياه الجوفية الريفية في كندا هي نسبياً متوازية مع تلك في الولايات المتحدة، ولكن استخدام المياه الجوفية البلدية هي أقل بكثير. إن الفرق المدهش هو في استخدام الري والصناعة حيث أن مجموع استهلاك المياه النسبي في كندا هو أقل بكثير منه في الولايات المتحدة، وأن جزء المياه الجوفية من هذا الاستخدام هو قليل جداً.
في اقتباس عن دراسة للجنة من مجلس الشيوخ الأميركي، قدّم McGuinness (1963) توقعاً لمستقبل المتطلبات الوطنية للمياه في الولايات المتحدة الأميركية. يُرجّح بأن الحاجة للمياه ستصل الى 1700 × 106 m3/day في العام 1980 و 3360 × 106 m3/day في العام 2000. إن إحراز هذه المستويات من الانتاج يُشكّل تسارع ملحوظ في معدل زيادة استخدام المياه المـُبيّن في الجدول 1.2. الأرقام للعام 2000 تقارب مجموع مورد المياه المحتملة للوطن، والمقدرة بحوالي 4450 × 106 m3/day. هناك قبول واسع بأن على المياه الجوفية تأمين جزء أكبر من مجموع الامدادات لتأمين الاحتياجات. بالنسبة للتوقعات السالفة، يلفت McGuinness بأنه إذا تزايدت مساهمة المياه الجوفية من 19% الى 33%، فإن استخدام المياه الجوفية يزيد من 262 × 106 m3/day حالياً الى 705 × 106 m3/day في العام 1980 و 1120 × 106 m3/day في العام 2000. ويُشير McGuinness الى أن الخصائص المرجوة للمياه الجوفية، مثل الوضوح والنقاوة من البكتيريا وثبات الحرارة والنوعية الكيميائية، يُمكن أن تُشجّع التطوير اللازم على نطاق واسع، ولكنه يُحذّر بأن المياه الجوفية، وخاصة وعند طلب كميات كبيرة منها، هي بطبيعتها أكثر صعوبة وأغلى ثمناً لجهة تحديد موقعها وتنميتها وإدارتها، مقارنة بالمياه السطحية، ويُضيف بأن المياه الجوفية هي مرحلة لا يمكن تجزأتها من الدورة الهيدرولوجية، وقد ولى الزمن الذي كان يمكن فيه اعتبار المياه الجوفية والمياه السطحية بأنهما موردان منفصلان. لا بد لتخطيط الموارد أن يُدرك بأن المياه الجوفية والمياه السطحية يعودان لنفس الأصل.
في الفصل الثامن، سنناقش تقنيات تقييم مورد المياه الجوفية، من المشاكل الجيولوجية في استكشاف الخزانات الجوفية، مروراً بالطرق الميدانية والمختبرية لقياس العامل وتقديره، وصولاً الى محاكاة أداء البئر، وإنتاج الخزان الجوفي، واستغلال المياه الجوفية على اتساع الأحواض.
تلوث المياه الجوفية
إن استمرار المياه الجوفية في لعب دوراً مهماً في تطوير إمكانيات الموارد المائية في العالم، يُحتّم حمايتها من الأخطار المتزايدة للتلوث تحت السطحي. إن نمو السكان والانتاج لصناعي والزراعي منذ الحرب العالمية الثانية، معطوفاً على ما ينتج منها من متطلبات متزايدة لتطوير الطاقة، بدأ للمرة الأولى في تاريخ البشرية على انتاج كميات من النفايات تتجاوز قدرة البيئة على امتصاصها بسهولة. إن خيار طريقة التخلص من النفايات باتت قضية إختيار المسار الأقل سوءً من مجموعة خيارات غير مرغوبة. كما يتضح منهجياً من الشكل1.4، فإنه لا يوجد حالياً طُرق مناسبة للتخلص من النفايات على نطاق واسع دون أن تحمل قابلية تلويث جدي لبعض الأجزاء من بيئتنا الطبيعية. في الوقت الذي يتنامى فيه الاهتمام بتلوث الهواء والمياه السطحية، فإن هذا النشاط لم يشمل البيئة تحت السطحية. في الواقع، إن الضغوط لتقليل تلوث المياه السطحية هي بجزء منها مسؤولة عن واقع أن أولئك المعنيين في ميدان إدارة النفايات وضعوا أعينهم على البيئة تحت السطحية للتخلص من النفايات. إن اثنين من تقنيات التخلص من النفايات المستخدمة حالياً والتي يُنظر اليها بتفاؤل الى المستقبل هي المطامر الصحية للنفايات الصلبة وحقن الآبار العميقة بالنفايات السائلة، وكلاهما يؤدي الى الى التلوث تحت السطحي. أضف الى أن التسرب من برك الماء والبحيرات (والتي تُستخدم بشكل واسع كمكونات لأنظمة التخلص من النفايات)، والرشح من نفايات الحيوانات، والأسمدة، والمبيدات الحشرية (من التربة الزراعية)، كلها يمكن أن تؤدي الى التلوث تحت السطحي.
في الفصل التاسع سندرس تحليل تلوث المياه الجوفية، سنتطرق الى المبادىء والعمليات التي تساعدنا على تحليل المسائل العامة للتخلص من النفايات البلدية والصناعية، بالاضافة الى مسائل أكثر تخصصاً والمرافِقة للأنشطة الزراعية، والتسرّب البترولي، وأنشطة المناجم والنفايات المـُشعّة. سنناقش أيضاً تلوث امدادات المياه الجوفية في السواحل من خلال تسلل المياه المالحة. لا بد في كل هذه المسائل من الدمج بين الاعتبارات الفيزيائية لجريان المياه الجوفية والخصائص الكيميائية والمبادىء التي تم عرضها في الفصل الثالث. كما أن هذا الاقتران لا بد وأن يُنجَز في ضوء مفاهيم التطور الطبيعي الجيوكيميائي والمناقَش في الفصل السابع.
المياه الجوفيةكمشكلة جيوتقنية
المياه الجوفية ليست دائماً نعمة، فخلال إنشاء نفق سان جاسينتو في كاليفورنيا، توقّف العمل بهذه القناة الباهظة (بضعة ملايين من الدولارات) لعدة أشهر بسبب وجود جريان كبير وغير متوقع من المياه الجوفية مصدره منطقة فالق عالية التشققات.
بعض أجزاء مدينة مكسيكو هبطت بحدود 8.5 أمتار خلال الفترة بين 1938 و 1970، وما تزال الانخسافات الأرضية المتباينة تُشكّل مشاكل حادة للتصاميم الهندسية. تم تشخيص السحب المفرط للمياه الجوفية من الخزانات الجوفية كسبب رئيسي لهبوط الأرض.
انهار سد جيروم في أيداهو، والسبب لا يعود الى ضعف بنيوي في نفس السد، بل لعدم قدرته على احتواء المياه الجوفية الجارية من الطبقات المتاخمة للخزان، والتي شكّلت مسارات تسرّب فعالة الى حد دفَع للتخلي عن السد.
بالنسبة لسد ريفل ستوك المقترح في بريتش كولومبيا، تم إجراء سنوات عديدة من التحقيقات الجيولوجية الاستكشافية لانهيار أرضي قديم تم اكتشافه على ضفاف الخزان بضعة أميال أعلى موقع السد، والمخاوف تكمن في إحتمال أن يسبب احتجاز المياه في الخزان الى تزايد ضغط المياه الجوفية على هذا الانزلاق ما يمكن أن يسبب مجدداً عدم استقرار المنحدر. حادثة من هذا النوع حصدت حوالي 2500 شخص في العام 1963 في كارثة سد فايونت سيء السمعة في إيطاليا. تم في موقع ريفل ستوك تنفيذ برنامج كبير لتصريف المياه بغية ضمان عدم تكرار تجربة فايونت.
في الفصل العاشر سنستكشف تطبيق مبادىء جريان المياه الجوفية على هذه الأنواع من المشاكل الجيوتقنية وحالات أخرى. بعض المشاكل، مثل التسرّب من السدود والجريان الى الأنفاق والمناجم ذات الحُفَر المفتوحة، يمكن أن تنشأ على خلفية المعدلات والكميات المفرطة لجريان المياه الجوفية. بالنسبة للبعض الآخر، كهبوط الأرض وعدم استقرار المنحدرات، فإن التأثير ينشأ من وجود ضغط سائل عالي بسبب المياه الجوفية وليس من معدل الجريان نفسه. في كلا الحالتين، فإن إعداد شبكة الجريان (flow-net)، والتي قُدّمت في الفصل الخامس من هذا الكتاب، تُعتبر أداه تحليل فعالة.
المياه الجوفية والعمليات الجيولوجية
هناك عدد قليل جداً من العمليات الجيولوجية التي تحدث دون وجود مياه جوفية. على سبيل المثال، يوجد علاقة وثيقة بين أنظمة جريان المياه الجوفية والتطور الجيومورفولوجي للتضاريس، والناتجة عن العمليات النهرية والعمليات الجليدية أو نتيجة التطور الطبيعي للمنحدرات. إن المياه الجوفية هي أهم حاكم لتطور البيئة الكارستية. كذلك، تلعب المياه الجوفية دوراً في تركيز بعض الرواسب المعدنية، وفي انتقال وترسّب المواد البترولية. لعل أهم دور جيولوجي للمياه الجوفية هو الدور الذي يلعبه ضغط السائل على آليات تكوّن الفوالق. واحدة من الامتدادات المثيرة لهذا التفاعل هو الاقتراح بأنه يمكن الحد من الهزات الأرضية المـُكوّنة على الفوالق الفاعلة من خلال معالجة ضغط السائل في منطقة الفالق.
في الفصل الحادي عشر، سنخوض أكثر في دور المياه الجوفية كعامل في العديد من العمليات الجيولوجية.
1.2 الأسس العلمية لدراسة المياه الجوفية
إن دراسة المياه الجوفية تتطلب معرفة بالعديد من المبادىء الأساسية في الجيولوجيا والفيزياء والكيمياء والرياضيات. على سبيل المثال، إن جريان المياه الجوفية في البيئة الطبيعية مرتبطة بقوة بالترتيب ثلاثي الأبعاد للرواسب الجيولوجية التي يتم الجريان خلالها. إن الهيدرولوجي المتخصص في المياه الجوفية أو الجيولوجي لا بد وأن يتمتع بخلفية معرفية حول تفسير الدليل الجيولوجي، وميل لتصور البيئات الجيولوجية. لا بد كذلك وأن يملك تدريباً في علّمَي الرسوبيات والطبقات، وفهماً حول العمليات التي تؤدي الى وضع الصخور البركانية والنارية الجوفية. يجب أن يملك معرفة بالمبادىء الأساسية للجيولوجيا البنائية وقادر على تشخيص وتوقّع تأثير الفوالق والطي على الأنظمة الجيولوجية. إن فهم طبيعة الرواسب السطحية والتضاريس يُشكّل أهمية خاصة أيضاً للطالب الذي يدرس المياه الجوفية. إن جزء كبير من جريان المياه الجوفية ونسبة معتبرة من تطور مواردها يجري في الرواسب السطحية التي كونتها العمليات الجيولوجية النهرية والبحيرية والجليدية والدلتية والريحية. إن فهم وجود وجريان المياه الجوفية في ثلثي الجزء الشمالي من شمال أميركا يتوقف بشكل كبير على فهم الجيولوجيا الجليدية لرواسب العصر الحديث (بلستوسين).
يُقدّم علم الجيولوجيا معرفة نوعية لشبكة الجريان، ولكن علمي الفيزياء والكيمياء يعطيان الأدوات للتحليل الكمّي. المياه الجوفية هي "ميدان" حالها كحال الحرارة والكهرباء، والمعرفة المسبقة بهذه المجالات الكلاسيكية تعطي خبرة جيدة في تحليل جريان المياه الجوفية. إن أساس القواعد التي تحكم جريان المياه الجوفية هي حالة خاصة من ذات الفرع في الفيزياء المعروف بـميكانيكية السائل. بعض الفهم للخصائص الميكانيكية الأساسية للسوائل والمواد الصلبة مع فهم لأبعادها ووحداتها يُساعد التلميذ في فهم قواعد جريان المياه الجوفية. الملحق "أ" يُعطي مراجعة لعناصر ميكانيكية السائل. أي قارىء الذي لا يجد نفسه واثقاً من فهم بعض المفاهيم مثل الكثافة، الضغط، الطاقة، العمل، الجهد، والجهد الهيدروليكي يُنصح بمقاربة هذا الملحق قبل الدخول في الفصل الثاني. في حال الحاجة لمعالجة أكثر تفصيلية فإن Streeter (1962) و Vennard (1961) هما من النصوص الأساسية، كما يُعطي Albertson و Simons (1964) مراجعة قصيرة مفيدة. لأجل موضوع محدد حول الجريان في الوسط المسامي، فإن معالجة أكثر تطوراً للجانب الفيزيائي يمكن إيجادها في Scheidegger (1960) و Collins (1961)، وتحديداً في Bear (1972).
إن تحليل التطور الكيميائي للمياه الجوفية وسلوك الملوثات فيها يحتاج الى استخدام بعض المبادىء في مجال الكيمياء غير العضوية والفيزيائية. هذه المبادئ كانت منذ زمن جزءً من منهجية الجيوكيميائيين، ودخلت في العقود الأخيرة الى الاستخدام الشائع في دراسات المياه الجوفية. إن المبادىء والتقنيات في مجال الكيمياء النووية تشارك حالياً في فهمنا المتزايد لبيئة المياه الجوفية. على سبيل المثال، تُستخدم حالياً النظائر المستقرة والمـُشعّة الموجودة طبيعياً لتحديد عمر المياه في الأنظمة تحت السطحية.
إن هيدرولوجيا المياه الجوفية هي علم كمّي، ومن غير المستغرب أن تكون الرياضيات لغتها أو بالحد الأدنى إحدى لهجاتها الأساسية. إن إهمال الأدوات القوية التي تعتمد على فهم الرياضيات يُعتبر من شبه المستحيل وربما ضرباً من الغباء. إن الطُرق الرياضية التي استندت عليها الدراسات الكلاسيكية حول جريان المياه الجوفية أخذها الباحثون الأوائل من مجالات الرياضيات التطبيقية التي تم تطويرها لمسائل جريان الحرارة والكهرباء والمغنطيس. مع تطور الكمبيوتر الرقمي وتوفره الواسع، فإن العديد من التطويرات المهمة الأخيرة في تحليل أنظمة المياه الجوفية تم تأسيسها على مقاربات رياضية مختلفة عُرفت بـ الطُرق العددية. على الرغم أن هذا الكتاب لا يعالج طرق التحليل الكلاسيكية أو العددية بالتفصيل، إلا أن نيتنا هي بتضمين مواد مقدماتية كافية لشرح بعض المفاهيم الأساسية.
إن هذا الكتاب هو بالتأكيد ليس الأول حول المياه الجوفية، حيث يوجد الكثير من المواد محل الاهتمام في العديد من المنشورات الأخرى السابقة. Todd (1959) كان وما يزال منذ سنوات الكتاب الأساسي للمقدمات الهندسية في هيدرولوجيا المياه الجوفية. Davies & De Wiest (1966) ألقيا اهتماماً أكبر حول الجيولوجيا، ولا تجد أفضل من كتابي Walton (1970) و Kruseman & De Ridder (1970) للتركيز حول تقييم الموارد المتعلقة بالمياه الجوفية، أما كتاب Domenico (1972) فيختلف عن أسلافه من خلال تقديم النظرية الأساسية في سياق محاكاة الأنظمة الهيدرولوجية. من ضمن أفضل الكتب من الخارج نجد: Schoeller (1962) ،Bear, Zaslavsky & Irmy (1968)، والمقالة الروسية المتقدمة لـ Polubarinova-Kochina (1962).
هناك العديد من علوم الأرض التطبيقية التي تُعنى بالجريان في الوسط المسامي. هناك علاقة وثيقة بين هيدرولوجيا المياه الجوفية، فيزياء التربة، ميكانيكية التربة، وهندسة الخزانات البترولية. إن طلاب المياه الجوفية سيجدون اهتماماً كبيراً في الكتب التي تُعنى بهذه المجالات مثل: Baver, Gardner & Gardner (1972)، Kirkham & Powers (1972)، Scott (1963)، Jaeger & Cook (1969)، و Pirson (1958).
1.3 الأسس التقنية لتطور موارد المياه الجوفية
إن المقطعين الأولين من هذا الفصل يعرضان لمقدمة حول المواضيع التي ننوي تغطيتها في هذا الكتاب، ولكن من المهم أيضاً تبيان المواضيع التي لا ننوي تغطيتها. كباقي العلوم التطبيقية، يمكن تقسيم دراسة المياه الجوفية الى ثلاثة مجالات واسعة: العلم والهندسة والتكنولوجيا. يُركّز هذا الكتاب بشكل كبير على المبادىء العلمية، كما يتضمن الى حد كبير التحليل الهندسي، ولكنه ليس بأي طريقة كُتيّب حول التكنولوجيا.
من ضمن المواضيع التقنية غير المطروحة في هذا الكتاب: طرق الحفر، تصميم وإنشاء وصيانة الآبار، والتسجيل الجيوفيزيائي وأخذ العينات، وهي كلها معارف مطلوبة للتخصص الكامل، ولكن التعامل معها يكون في مكان آخر، كما أن تعلّمها بالخبرة أفضل من الكتب.
هناك العديد من الكتب (Briggs & Fielder 1966; Gibson & Singer 1971; Campbell & Lehr 1973; U.S. Environmental Protection Agency 1973a, 1976) وصف تقني لمختلف أنواع معدات حفر آبار المياه، كما تتضمن معلومات حول تصميم وضبط مصفاة الآبار، اختيار وتنصيب المضخات، وبناء وصيانة الآبار.
في صناعة البترول حيث نشأت معظم التقنيات هو Pirson (1963). يناقش Patten & Bennett (1963) التقنيات المتعددة مع مراعاة خصوصية استكشاف المياه الجوفية. سنعطي في المقطع 8.2 (من هذا الكتاب) لفتة مختصرة للحفر تحت السطحي وتسجيل البئر (borehole logging)، ولكن القارىء المهتم بأمثلة أكبر في سياق تقييم حالات تاريخية حقيقية حول موارد المياه الجوفية يمكنه مراجعة Walton (1970).
يوجد جانب تقني إضافي حول المياه الجوفية، ولكن في سياق مختلف لم يتم التطرق له في هذا الكتاب، وهو قانون المياه الجوفية. إن تطور وإدارة موارد المياه الجوفية لا بد وأن يجري في إطار من الحقوق يضعها التشريع، والتي تكون على مستوى الولاية أو المحافظة، وفي شمال أميركا هي خليط من التقاليد المختلفة والحقوق والقوانين. ناقش Piper (1960) و Dewsnut et al. (1973) الحالة في الولايات المتحدة، ولفت Thomas (1958) الانتباه الى بعض التناقضات التي يمكن أن تنشأ من الصراعات بين الهيدرولوجيا وعلم المياه.
قراءات مقترحة
CHOW, V. T. 1964. Hydrology and its development. Handbook of Applied Hydrology, ed. V. T. Chow. McGraw-Hill, New York, pp. 1.1–1.22.
MCGUINNESS, C. L. 1963. The role of groundwater in the national water situation. U.S. Geol. Surv. Water-Supply Paper 1800.
MURRAY, C. R. 1973. Water use, consumption, and outlook in the U.S. in 1970. J. Amer. Water Works Assoc., 65, pp. 302–308.
NACE, R. L., ed. 1971. Scientific framework of world water balance. UNESCO Tech. Papers Hydrol., 7, 27 pp.